فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)}
{تلهى}.
إبطال وقد تقدم ذكر {كلا} في سورة مريم (79 82)، وتقدم قريباً في سورة النبأ (4، 5)، وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله: {وما يدريك لعله يزكى} [عبس: 3].
ولو بالتعريض أيضاً كما في قوله: {عبس وتولى} [عبس: 1].
وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإِبطال إلى {عبس وتولى} خاصة.
ويجوز أن يكون تأكيداً لقوله: {وما عليك ألاَّ يزكى} [عبس: 7] على التفسيرين، أي لا تظن أنك مسؤول عن مكابرته وعناده فقد بلَّغت ما أمرتَ بتبليغه.
{كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ في صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ}.
استئناف بعد حرف الإِبطال، وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإِبطال يثير في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن، أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصَّر في شيء من واجب التبليغ.
وضمير {إنها} عائد إلى الدعوة التي تضمنها قوله: {فأنت له تصدى} [عبس: 6].
ويجوز أن يَكون المعنى: أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاماً وإنما يعاتب الحبيبُ حبيبَه.
ويجوز عندي أن يكون {كلا إنها تذكرة} استئنافاً ابتدائياً موجهاً إلى من كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه قُبيل نزول السورة فإنه كان يَعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومَن معه، وكانوا لا يستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث، فتكون {كلا} إبطالاً لما نَعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحوِ ذلك.
فيكون ضمير {إنها تذكرة} عائداً إلى الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك المجلس ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن.
ويؤيد هذا الوجهَ قوله تعالى عَقبه: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17] الآيات حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث.
فكان تأنيث الضمير نكتةً خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني.
والضمير الظاهر في قوله: {ذكره} يجوز أن يعود إلى {تذكرة} لأن مَا صَدْقَها القرآن الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرضه على صناديد قريش قُبيل نزول هذه السورة، أي فمن شاء ذكرَ القرآن وعمل به.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الله تعالى فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذِكر معاده في الكلام كثير في القرآن لأن شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن، أي فمن شاء ذكر الله وتوخّى مرضاته.
والذِكر على كلا الوجهين: الذكر بالقلب، وهو توخّي الوقوف عند الأمر والنهي.
وتعدية فعل (ذكر) إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام.
والذي اقتضى الإِتيانَ بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاةُ الفواصل وهي: {تذكرهْ} {مطهرهْ}، {سفرهْ}، {بررهْ}.
وجملة: {فمن شاء ذكره} معترضة بين قوله: {تذكرة} وقوله: {في صحف}.
والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة {إنها تذكرة} فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائماً، فالفاء من جملة الاعتراض، أي هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده، أي يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44].
وفي قوله: {فمن شاء ذكره} تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ.
وهذا كقوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45] وقوله: {لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 28] وقوله: {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48] ونحوه كثير، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} في سورة الإنسان (29).
والتذكرة: اسم لما يُتذكر به الشيءُ إذا نُسي.
قال الراغب: وهي أعم من الدلالة والأمارة قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} وتقدم نظيره في سورة المدثر (49).
و{كل من تذكرة} و{ذكره} هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الدال في الغالب، أي فمن شاء عمل به ولا ينسه.
والصحف: جمع صحيفة، وهي قطعة من أديم أو وَرَق أو خرقةٌ يكتب فيها الكتاب، وقياس جمعها صحائف، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إلا صُحف، وسيأتي في سورة الأعلى، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه.
و{مطهرة} اسم مفعول مِن طَهَّره إذا نظَّفه.
والمراد هنا: الطهارة المجازية وهي الشرف، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها بـ: {مُكرمة}، {مرفوعة}، {مطهرة} محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها كما قال تعالى: {قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم} [النمل: 29].
وتشريفها كما قال تعالى: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين: 18] وقُدسِيةِ معانيها كما قال تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129]، وكان المرادُ بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيسَ، وأكتاف، ولِخاف، وجريد.
فقد روي أن كتَّاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليباً ويكون حرف (في) للظرفية الحقيقية ويكون المراد بالسفرة جمع سافر، أي كاتب، وروي عن ابن عباس.
قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر (بكسر السين) وللكاتب سَافر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال: أسفر الصبح، إذا أضاء وقاله الفراء.
ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل التوراة والإِنجيل والزبور وصحف إبراهيم عليه السلام.
فتكون هذه الأوصاف تأييداً للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به.
ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين: أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم، كما قال تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18 19] وكما قال: {وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196] وكما قال: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13].
ويجوز أن يراد بالصحف صحفٌ مجازية، أي ذوات موجودةٌ قدسيةٌ يتلقى جبريل عليه السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها.
ومعنى {مكرمة} عناية الله بها، ومعنى {مرفوعة} أنها من العالم العلوي، ومعنى {مطهرة} مقدسة مباركة، أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية.
وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف (فَسَفَرة) يجوز أن يكون جمع سَافر، مثل كاتب وكتبة، ويجوز أن يكون اسم جمع سَفير، وهو المرسَل في أمر مهم، فهو فَعيل بمعنى فاعل، وقياس جمعه سفراء وتكون (في) للظرفية المجازية، أي المماثلة في المعاني.
وتأتي وجوهٌ مناسبة في معنى {سفرة}، فالمناسب للوجه الأول: أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يكون المراد قراء القرآن، وبه فسر قتادة وقال: هم بالنبطية القراء، وقال غيرهم: الوراقون باللغة العبرانية.
وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرّب كما في (الإِتقان) عن ابن أبي حاتم، وقد أغفلها السيوطي فيما استدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرَّب في القرآن أو قَصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها.
والمناسب للوجه الثاني: أن يكون محمله الرسل.
والمناسب للوجه الثالث: أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراءُ بين الله ورسله.
والمراد بأيْديهم: حِفْظهم إياه إلى تبليغه، فمثّل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعُهود.
وإما أن يراد: الرسلُ الذين كانت بأيديهم كتُبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام.
وإما أن يراد كتَّاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر وعثمان وعلى وعامر بن فهيرة.
وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عُثُوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد.
وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت: 49] فهذا معنى السفرة.
وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإِسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة {سفرة} من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام.
ووصف {كرام} مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى: {كراماً كاتبين} [الانفطار: 11].
ووصف البرَرة ورد صفةً للملائكة في الحديث الصحيح قوله: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهِر به مع السَفرة الكرام البرَرَة».
والبررة: جمع بَرّ، وهو الموصوف بكثرة البرور.
وأصل بَرّ مصدر بَرَّ يبَرّ من باب فَرح، ومصدره كالفَرح، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عَدل وقد اختص البررة بجمع بَرّ ولا يكون جمع بارّ.
والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكةُ والأبرارَ الآدميون.
قال الراغب: لأن بررة أبلغ من أبرار إذ هو جمع بَرّ، وأبرار جمع بَار، وبَرّ أبلغ من بار كما أن عَدلا أبلغ من عادل.
وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثَره في التذكير والإِرشاد، وبرفعة مكانته، وقدس مصدره، وكرم قراره، وطهارته، وفضائل حَمَلَتِه ومبلغيه، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية.
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)}
استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثرُ، وذلك يبيِّنه مَا وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم.
والمناسبة وصفُ القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالَبهم بالإِيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله: {فمن شاء ذكره} [عبس: 12].
والذي عُرِّف بقوله: {من استغنى} [عبس: 5] يشمله العموم الذي أفاده تعريف {الإِنسان} من قوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره}.
وفعل قُتل فُلانٌ أصله دعاء عليه بالقتل.
والمفسرون الأولون جعلوا: {قتل الإنسان} أنه لُعِن، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك.
قال في (الكشاف): دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم. أي فمورده غير مورد قوله تعالى: {قاتلهم اللَّه} [التوبة: 30] وقولهم: قاتَل الله فلاناً يريدون التعجب من حاله، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله: {ما أكفره} يغني عن ذلك.
والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء.
وبناء {قتل} للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء، إذ لا غرض في قاتِل يَقتله، وكثر في القرآن مبنياً للمجهول نحو {فقتل كيف قدر} [المدثر: 19].
وتعريف {الإنسان} يجوز أن يكون التعريفَ المسمى تعريفَ الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس، وهو استغراق حقيقي، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولَّدَ بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني، ويسمى العامَّ المرادَ به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بُين به كفر الإِنسان من قوله: {من أي شيء خلقه} إلى قوله: {ثم إذا شاء أنشره} فيكون المراد من قوله: {الإنسان} المشركين المنكرين البعث، وعلى ذلك جملة المفسرين، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث.
قال مجاهد: ما كان في القرآن {قتل الإنسان} فإنما عُني به الكافر.
والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان، فقوله: {ما أكفره} تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر.
فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإِنسان.
فغالب الناس كفروا بالله من أَقدم عصور التاريخ وتفَشَّى الكفر بين أفراد الإِنسان وانتصروا له وناضلوا عنه.
ولا أعجبَ من كفر من أَلَّهوا أعْجز الموجودات من حجارة وخشب، أو نَفَوا أن يكون لهم رب خلقهم.
ويجوز أن يكون تعريف {الإنسان} تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يُعيِّنه خبر سبب النزول، فقيل: أريد به أميةُ بن خلف، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة.
وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، والمناسبة ظاهرة.
وجملة {ما أكفره} تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد.
وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان.
ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كَمّاً وكيْفاً، ومتىً، لأنه كفر بوحدانية الله، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء، وبإرساله الرسول، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإِنذار والتهديد.
وهذه الجملة بلغت نهاية الإِيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حدّ المذمة، جامع للملامة، ولم يسمع مثلها قبلها، فهي من جوامع الكلم القرآنية.
وحذف المتعلق بلفظ {أكفره} لظهوره من لفظ (أكفَرَ) وتقديرُه: ما أكفره بالله.
وفي قوله: {قتل الإنسان ما أكفره} محسّن الاتِّزَان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة.
وجملة {من أي شيء خلقه} بيان لجملة {قتل الإنسان ما أكفره}، لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإِنكار من أكبر أصول كفرهم.
وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى: {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} [النبأ: 1 2].
والاستفهام صوري، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي به خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإِثبات أن الله خلق الإِنسان، بل المقام لإِثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} [ق: 15] أي كما كان خلق الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن مَّا، ونظيره قوله تعالى: {فلينظر الإِنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر} في [الطارق:5 – 8].
والضمير المستتر في قوله: {خلقه} عائد إلى لله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان.
وقدم الجار والمجرور في قوله: {من نطفة خلقه} محاكاة لتقديم المبيَّن في السؤال الذي اقتضى تقديمَه كونُه استفهاماً يستحق صدر الكلام، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كوّن أبدع مخلوققٍ معروف من أهون شيء وهو النطفة.
وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقدم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع.
فذكر فعل {خلقه} الثاني من أسلوب المساواة ليس بإيجاز، وليس بإطناب.
والنطفة: الماء القليل، وهي فُعلة بمعنى مفعولة كقولهم: قُبضةُ حَب، وغُرفة ماء.
وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل، فذُكرت النطفة لتعيُّن ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء إلى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر، على أن المقام هنا للدلالة على خلققٍ عظيم وليس مقام زجر المتكبر.
وفُرع على فعل {خلقه} فعلُ {فقدره} بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2] أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئاً للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف وتمكينه من النظر بعقله، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرَّجاً مفرعاً.
وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال.
وحرف {ثم} من قوله: {ثم السبيل يسره} للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثَرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة.
و{السبيل}: الطريق، وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيهاً للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيهَ المحسوس بالمعقول.
ويجوز أن يكون مستعاراً لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك المَمر اسم السبيل في قولهم: (السبيلان) فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه.
وفيه مناسبة لقوله بعده: {ثم أماته فأقبره}، ف {أماته} مقابل {خلقه} و{أقبره} مقابل {ثم السبيل يسره} لأن الإِقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض.
والتيسير: التسهيل، و{السبيل} منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال، والضمير عائد إلى {السبيل}.
والتقدير: يسّر السبيل له، كقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17] أي لذِكر الناس.
وتقديم {السبيل} على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين، وفيه رعاية للفواصل.
وكذلك عطف {ثم أماته} على {يسره} بحرف التراخي هو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القُوى العقلية والحسيّة بالموت، بعد أن كانت راسخة زمناً ما، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظارِ زمانٍ يساوي مدة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة.
ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يُحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حيّ آيل إلى الموت لا محالة، فالمعنى: ثم أماته ويُميته.
فصيغة المضي في قوله: {أماته} مستعملة في حقيقته وهو موت من مات، ومجازِه وهو موت من سيموتون، لأن موتهم في المستقبل محقق.
وذكر جملة: {ثم أماته} توطئة وتمهيد لجملة {فأقبره}.
وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال.
وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج: {فقدره ثم السبيل يسره} فيما سبق.
و{أقبره} جعله ذا قبر، وهو أخص من معنى قَبَره، أي أن الله سَبّب له أن يقبر.
قال الفراء: أي جعله مقبوراً، ولم يجعله ممن يُلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس. (جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه).
والإِقبار: تهيئة القبر، ويقال: أقبره أيضاً، إذا أمر بأن يُقبر، ويقال: قبر المَيت، إذا دفنه، فالمعنى: أن الله جعل الناس ذوي قبور.
وإسناد الإِقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدَّفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميتٍ حفرةً فواراه فيها، وهي في سورة العقود، فأسند الإِقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه.
وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن المَيت.
والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة {أماته}.
وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عَدوها قاصرة على الخلق الثاني، وهي تتضمن منناً على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء، وإكرامهم أمواتاً بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللّقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب، فمحل المنة في قوله: {ثم أماته} هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله: {فأقبره} وليست الإِماتة وحدها منة.
وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإِقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند، ودون الإِلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفَرَى:
لا تقبروني إن قبري محرَّم ** عليكم ولكن أبشري أمَّ عامر

يريد أن تأكله الضبع، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفَن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة، ووارَى قتلى المشركين ببدر في قليب، قال عمرو بن معديكرب قبل الإِسلام:
آليتُ لا أدفِن قتلاكُمُ ** فدَخِّنُوا المَرْءَ وسِرْبَالَه

وجملة: {ثم إذا شاء أنشره} رجوع إلى إثبات البعث وهي كالنتيجة عقب الاستدلال.
ووقع قوله: {إذا شاء} معترضاً بين جملة {أماته} وجملة: {أنشره} لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و(إذا) ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل.
والمعنى: ثم حين يشاء ينشره، أي ينشره حين تتعلق مشيئته بإنشاره.
و{أنشره} بعثه من الأرض وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ يقال: نشر الثوب، إذ أزال طيّه، ونشر الصحيفة، إذا فَتحها ليقرأها.
ومنه الحديث: «فنشروا التوراة».
وأما الإِنشار بالهمز فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيّاً وهو البعث، فيجوز أن يقال: نُشِر الميت، والعَرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلاتهم التوهمية.
فيكون منه قول الأعشى:
حتى يقول الناس ممّا رأوا ** يا عَجَباً للْمَيِّتِ النَّاشِر

ولذلك قال الله تعالى: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [هود: 7].
وفي قوله: {إذا شاء} ردّ لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحدياً وتهكماً ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلاً على أنه لا يكون، فأعلمهم الله أنه يقع عندما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه لأنه موكول إلى حكمة الله، واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية.
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}
تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَافَّ المَنال، وبعضها جافٍ عن الاستعمال.
ذلك أن المعروف في {كلاَّ} أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل، فتعين المصير إلى تأويل مورد {كَلاَّ}.
فأما الذين التزموا أن يكون حرف {كَلاَّ} للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يومئ إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه.
فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل {كَلاَّ} ممّا يومئ إليه قوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 22]، أي إذا شاء الله، إذ يومئ إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحدًّا منذ القدم إلى الآن.
وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم.
وموقع {كَلاَّ} على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال، وموقع جملة: {لما يقض ما أمره} موقع العلة للإِبطال، أي لو قَضَى ما أمره الله به لعِلم بطلان زعمه أنه لا ينشر.
وتأوله في (الكشاف) بأنه: ردْع للإِنسان عما هو عليه. أي مِمَّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع، يريد أنه زجر عن مضمون: {ما أكفره} [عبس: 17].
ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد {كلاّ} مما يومئ إليه قوله تعالى: {لما يقض ما أمره} أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه، ويُتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد، وهو أقرب لأن ما بعد {كَلاَّ} لما كان نفياً ناسب أن يُجعل {كلاّ} تمهيداً للنفي.
وموقع {كلاّ} على هذا الوجه أنها جزء من استئناف.
وموقع جملة: {لما يقض ما أمره} استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة: {من أي شيء خلقه} إلى قوله: {أنشره} [عبس: 18 22]، أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكانِ الخلق الثاني، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله.
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في {كلاّ} وهم الكسائي القائل: تكون {كلاّ} بمعنى حقاً، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل: تكون {كلا} بمعنى (ألاّ) الاستفتاحية.
والنضر بن شميل والفرّاء القائلان: تكون {كلاّ} حَرفَ جواب بمعنى نعم.
فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر.
وعن الفراء {كلاّ} تكون صلة (أي حرفاً زائداً للتأكيد) كقولك: كلاَّ ورب الكعبة. اهـ.
وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية.
فالوجه في موقع {كلاّ} هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله: {ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 22] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله: {كلا إنها تذكرة} [عبس: 11] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله: {إذا شاء} مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي.
وتكون جملة: {لما يقض ما أمره} تعليلاً للردع، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن، ويكون المراد بالأمر في قوله: {ما أمره} أمر التكوين، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 36].
ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله: {لما يقض ما أمره} وقدمت {كلاّ} في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر.
وتقدم الكلام في {كلاّ} في سورة مريم وأحَلْتُ هنالك على ما هنا.
و{لَمَّا} حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل (لَمْ) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14].
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه.
والقضاء: فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى: {فلينظر الإنسان مما خلق} [الطارق: 5]، وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه.
ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر.
والضمير المستتر في {أمره} عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في {خلقه}، و{قدره}، و{يسره}، و{أماته}، و{أقبره}، و{أنشره}. اهـ.